المرأة والحرية والحياة.. تحرير المرأة بالاحتجاجات

المسك- متابعات عاجلة:
يجادل هذا المقال بأن مزيدا من مشاركة المرأة في الاحتجاجات وتقدمها للصفوف ليس ضمانة فقط لنجاحها ولكنه السبيل الأساسي لمزيد من حصولها على حقوقها، ويضيف أن خبرة العقد الماضي في منطقتنا -التي تمتد حضاريا لتشمل إيران وتركيا- تدلنا على أن مزيدا من تصاعد وتيرة النظم التسلطية في المنطقة في مواجهة الانتفاضات قد أدى إلى تراجع مؤشرات المساواة بين الجنسين، ومن ثم فإن أولئك الذين يرغبون في محاربة المد المتصاعد للسلطوية سيحتاجون إلى جعل تعزيز المشاركة السياسية والمدنية للمرأة -من خلال مشاركتها في الاحتجاجات- محوريا في عملهم.
إن كراهية النساء والاستبداد ليسا مجرد مرضين مشتركين ولكنهما مرضان يعزز كل منهما الآخر. لكن كيف تجعل النساء الاحتجاجات أكثر نجاحا؟
في جميع أنحاء العالم تميل الحركات التي تقودها النساء إلى أن تكون أكثر إبداعا من تلك التي تهمش المرأة
وجدت أبحاث إيريكا تشينويث أستاذة العلوم السياسية بجامعة هارفارد استنادا إلى دراسة للحركات الثورية من عام 1945 إلى عام 2014، أن وجود النساء في الحركات الثورية على مستويات عالية يجعل تلك الحملات أكثر احتمالية للنجاح، لذا فإن النساء المنخرطات في الحراك يشكلن تهديدا للقادة الاستبداديين وذوي الميول التسلطية، وبالتالي فإن هؤلاء القادة لديهم سبب إستراتيجي ليكونوا متحيزين ضد المرأة. أما أبرز الأسباب فهي:
- تميل الحركات التي تلعب فيها النساء دورا بارزا إلى جذب أعداد أكبر بكثير من المشاركين. وفي المتوسط يبلغ حجمها حوالي 7 أضعاف الحركات التي تهمش النساء.
- تميل الحركات التي تضم أعدادا كبيرة من المشاركات إلى أن يُنظر إليها على أنها أكثر شرعية في نظر المراقبين، الذين غالبا ما يستجيبون للقوة الرمزية للجدات والأمهات وتلميذات المدارس اللواتي يشاركن في المظاهرات بشجاعة.
- تتيح مشاركة المرأة في الحركات الجماهيرية للناشطين الوصول إلى أدوات التغيير الاجتماعية التي تؤثر عليها النساء داخل أسرهن ومجتمعاتهن، حيث يمكنهن الاعتماد على شبكات ومعايير مختلفة عن تلك التي يسيطر عليها الرجال. على سبيل المثال؛ في العائلات والمجتمعات، غالبا ما تكون النساء قادرات على تقديم مطالبات أخلاقية وممارسة السلطة الاجتماعية بطرق تشكل سلوك ومواقف من حولهن.
- غالبا ما تكون حركات الاحتجاج الشاملة للجنسين أفضل في تقويض ولاءات نخب النظام، وتمكين الإصلاحيين، وتهميش المتشددين مع اشتداد الصراع.
- في جميع أنحاء العالم تميل الحركات التي تقودها النساء إلى أن تكون أكثر إبداعا من تلك التي تهمش المرأة.
- يمكن أن يأتي عنف الدولة ضد المتظاهرات بنتائج عكسية؛ فغالبا ما يُنظر إلى مهاجمة النساء والأطفال على أنها غير شرعية وعلامة على ضعف الحكومة.
- تكون الحملات التي تشارك فيها النساء بشكل بارز أكثر مرونة في مواجهة القمع، ويرجع ذلك جزئيا إلى أن الاحتجاجات الشاملة لفئات اجتماعية واسعة من المرجح أن تظل غير عنيفة.
- المشاركة الكبيرة من قبل النساء والجهات الفاعلة المتنوعة الأخرى تزيد من رأس المال الاجتماعي والأخلاقي والمالي الذي يمكن للحركة أن تستخدمه لتقويض نظام دعم خصمها.
- تتيح مشاركة المرأة أيضا تكتيكات جنسانية ثقافية مثل المسيرة بملابس ملكة الجمال الكاملة، كما فعلت النساء في احتجاجات ميانمار المؤيدة للديمقراطية في عام 2021، وطهي الطعام في الخطوط الأمامية للمظاهرات، كما فعلت النساء العراقيات في 2019 وخلال انتفاضة المزارعين في 2020 و2021 في الهند، كذلك اعتمدت بعض حركات الاحتجاج على الفضيحة الاجتماعية. فعلى سبيل المثال؛ أثناء الاحتجاجات المناهضة للحكومة في الجزائر في عام 2019، طلبت الجدات من شرطة مكافحة الشغب العودة إلى ديارهن، وهددن بإبلاغ أمهاتهن بسلوك الضباط السيئ، وفي السودان في نفس العام، قامت مجموعة نسائية على فيسبوك بتسمية رجال شرطة يرتدون ملابس مدنية وفضحهم، فقد اعتبر أعضاؤها إخوانهم وأبناء عمومتهم وأبناؤهم أعضاء في المليشيات الغامضة التي كانت تحاول ترويع المعارضة لإجبارها على الخضوع.
الاستبداد الأبوي
ليس من قبيل المصادفة أن مساواة المرأة تتراجع في نفس الوقت الذي يتزايد فيه الاستبداد. وقد لاحظ علماء السياسة منذ فترة طويلة أن الحقوق المدنية للمرأة والديمقراطية يسيران جنبا إلى جنب، لكنهم كانوا أبطأ في إدراك أن الأولى هي شرط مسبق للأخيرة.
إن فهم العلاقة بين التحيز ضد المرأة وبين التراجع الديمقراطي أمر حيوي لأولئك الذين يرغبون في مقاومة كليهما. ومن الواضح أن النشاط السياسي للمرأة قد وسع الديمقراطية وحصنها، وهي حقيقة يفهمها المستبدون بشكل بديهي وتفسر خوفهم من تمكين المرأة. وفي العقود السبعة الماضية، ساعدت مطالب النساء بالإدماج السياسي والاقتصادي في تحفيز التحولات الديمقراطية، خاصة عندما كانت النسوة في الخطوط الأمامية للحركات الجماهيرية. وتُظهر تحليلات متنوعة أن المشاركة الواسعة في الخطوط الأمامية من قبل النساء ترتبط بشكل إيجابي بزيادة الديمقراطية القائمة على المساواة.
بعبارة أخرى؛ إن مشاركة المرأة في الحركات الجماهيرية هي بمثابة مد متصاعد يرفع كل القوارب. وفي البيئات الأقل استبدادا -حيث لا يمكن ببساطة فرض سياسات متحيزة ضد المرأة بشكل علني- يستخدم القادة ذوو الميول الاستبدادية وأحزابهم السياسية -مثل ترامب وقوى اليمين في أميركا اللاتينية وأوروبا- خطابا متحيزا ضد المرأة لإثارة الدعم الشعبي لأجنداتهم الرجعية، وغالبا ما يخفوه في زي الشعبوية.
من وجهة نظر السلطوية الأبوية؛ الرجال ليسوا رجالا حقيقيين ما لم يسيطروا على النساء في حياتهن. والاستبداد الأبوي يمكن أن يلحق أضرارا كبيرة على المدى القصير بحقوق النساء، ويمحو المكاسب التي تحققت بشق الأنفس والتي استغرقت أجيالا لتحقيقها
وبذلك، فإنهم يروجون لروايات كارهة للنساء عن “الأنوثة الوطنية” التقليدية. وقد وصفت إحدى الباحثات هؤلاء القادة بأنهم يروجون “للقوميات القلقة وغير الآمنة” التي تعاقب النسويات وتجردهن من إنسانيتهن. وحيثما أمكنهم ذلك فإنهم ينتهجون سياسات تؤكد سيطرة الدولة بشكل أكبر على أجساد النساء، مع تقليل الدعم للمساواة السياسية والاقتصادية بين الجنسين. إنهم يشجعون -وغالبا ما يشرعون- على إخضاع النساء، ويطالبون الرجال والنساء بالالتزام بأدوار الجنسين التقليدية من منطلق الواجب الوطني. وفي المقابل فإن كثيرا من الأنظمة السياسية في المنطقة بغض النظر عن شكلها (ملكي أم جمهوري، حزبي أو غير حزبي بانتخاب أو بغيره) يغسلون سمعتهم الاستبدادية باستخدام رطانات تؤكد على حقوق النساء دون تغيير حقيقي في أحوالهن، والغرض من ذلك تحسين صورتهم على المستوي الدولي، ودعم حصول بعضهم على القروض من المؤسسات الدولية، وفي نفس الوقت يستخدمون هذه الرطانات للحصول على تأييد قطاع من النسويات، بالإضافة إلى ما يحدثه هذا التأييد من انقسام بين الحركات النسوية وشل قدرتهن على التعبئة الجماهيرية خلفهم.
وحين تتبنى هذه الأنظمة بعض المطالب التي ينادون بها مثل زيادة حصتهن في البرلمانات عن طريق الكوتا النسائية أو زيادة تعيينهن في الوزارات وهياكل الدولة، تصدمنا دراسات كثيرة بنتائجها التي تؤكد إخفاق هذه الصيغة؛ فعلى عكس النتائج التي توصلت إليها الديمقراطيات الغربية، لا تعمل السياسيات كنماذج يحتذى بهن في آسيا، وبدلا من ذلك، فإن وجود المرأة في البرلمان الوطني يقلل من المشاركة السياسية للمرأة، كما أن وجود نظام حصص يفرض وجود ممثلين من النساء يقلل من مشاركة المرأة بالسياسة المحلية في أفريقيا، وتتمثل إحدى الطرق التي تجعل القادة الاستبداديين وغير الليبراليين التسلسل الهرمي الجنساني مقبولا للنساء من خلال تسييس “الأسرة التقليدية” والتي تصبح تعبيرا ملطفا لربط قيمة المرأة ومكانتها بالإنجاب وتربية الأطفال، كما تصبح أجساد النساء أهدافا للرقابة الاجتماعية بالنسبة للمشرعين الذكور الذين يستحضرون نموذج النقاء الأنثوي ويدعون الأمهات والبنات والزوجات إلى إعادة إنتاج نسخة مثالية من الأمة.
فمن وجهة نظر السلطوية الأبوية؛ الرجال ليسوا رجالا حقيقيين ما لم يسيطروا على النساء في حياتهن. والاستبداد الأبوي يمكن أن يلحق أضرارا كبيرة على المدى القصير بحقوق النساء، ويمحو المكاسب التي تحققت بشق الأنفس والتي استغرقت أجيالا لتحقيقها، لذا يجب أن تفهم المجموعات والمنظمات المؤيدة للديمقراطية أن الحركات الشاملة حقا -تلك التي تتجاوز الطبقة والعرق والجنس والهوية الجنسية- هي الأكثر احتمالية لتحقيق تغيير دائم.
ففي الربيع العربي تم دمج مطالب النساء في الحراك العام، وجرى تجاوز ثنائية الذكر/الأنثى من خلال المواطنة الكاملة للجميع، لذا فقد كانت الشعارات تدور حول الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة، أما في الاحتجاجات الإيرانية الحالية فقد كانت مظالم النساء هي المدخل أو البوابة التي تم التعبير من خلالها عن المظالم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
ومن هنا كانت أهمية الشعار الذي بدأ بالمرأة وانتهى بالحياة مرورا بالحرية؛ حيث المرأة سر الحياة التي لا تطيب (“الحياة الطيبة”، وفق تعبيراتنا الحضارية) إلا بالحرية. ومركزية المرأة في هذه الاحتجاجات مهمة لأسباب تتجاوز التمثيل أو المساواة؛ فوفقا لعلماء المقاومة المدنية تميل المستويات العالية من مشاركة المرأة إلى جعل الحركات الجماهيرية أكثر شمولا وابتكارا وغير عنيفة، كما قدمتُ، والأهم من ذلك أنها أكثر احتمالية لتحقيق أهدافها.
وبينما تستمر الاحتجاجات في التركيز على حقوق النساء ومطالبهن، فإن دعواتهن للتغيير يتردد صداها من قبل قطاعات أكبر من الجمهور الإيراني أكثر من أي وقت مضى بما في ذلك طلاب الجامعات والنقابات العمالية ومجموعات الأقليات العرقية. إنهم يرون أن مصالح المرأة ومطالبها بالمساواة بين الجنسين والتمييز غير الجنساني تتماشى مع المطالب الأكبر المؤيدة للديمقراطية وحقوق الإنسان ومناهضة الفساد والمساواة التي يطالب بها المجتمع الأكبر.
إن مركزية حقوق المرأة في انتفاضة إيران تجعلها مختلفة عن تلك الحالات السابقة للتعبئة السياسية النسائية، وفريدة من نوعها بين الحركات الجماهيرية الأخيرة في الشرق الأوسط الكبير. ومنذ الربيع العربي في 2010-2011 وحتى ثورة السودان 2019، غالبا ما اندلعت الاحتجاجات في المنطقة في أعقاب مقتل الشباب. أما في إيران، فهذه هي المرة الأولى في التاريخ الحديث للمنطقة التي اشتعلت فيها انتفاضة على الصعيد الوطني بموت امرأة شابة، وواحدة من أقلية عرقية.
احتجاج النساء والمساواة بين الجنسين
عادة لا تطالب النساء المحتجات بتغييرات في سياسات الحكومات فحسب، ولكن من خلال احتجاجهن المنظم كنساء، يقدمن أيضا رؤى مساواة للمرأة في السياسة والمجتمع. وتشير عدة دراسات إلى أنه نظرا لظهور المرأة في هذه الاحتجاجات يجعل وجودها أمرا طبيعيا في المجالين العام والسياسي ويتحدى التسلسل الهرمي الجنساني في السياسة؛ فإن النتائج تشير إلى أن الاحتجاج الجنساني يؤثر على المواقف بين الجنسين خاصة بالنسبة للشباب الذين هم أقل دعما للمساواة بين الجنسين، وتجادل هذه الدراسات بأن احتجاج النساء -بغض النظر عن التركيز على القضية- يشكل مواقف الشباب تجاه النوع الاجتماعي لعدة أسباب:
- نظرا لوجود التسلسل الهرمي الجنساني غالبا داخل الحركات الاجتماعية، فإن الاحتجاجات التي تلعب فيها النساء دورا رئيسيا تثير قضايا عدم المساواة بين الجنسين وتتحدى في نهاية المطاف التسلسلات الهرمية الموجودة.
- قد يُبرز النشاط والقيادة في الاحتجاجات النسائية هؤلاء النساء كنماذج يحتذى بهن، مما يؤدي بالشباب إلى أن يصبحوا أكثر مساواة بين الجنسين.
- تكون الفتيات أكثر دعما للمساواة بين الجنسين من نظرائهن من الرجال نتيجة إدراكهن لذاتهن في جميع مستويات نشاط النساء الاحتجاجي.
إن الوجود الطبيعي للنساء المحتجات في الشوارع قد يحفز الرغبة في المساواة بين الجنسين والاستعداد لتبني أدوار المساواة بينهما، لذا ففي البلدان التي تشهد المزيد من أحداث الاحتجاج النسائية ستكون هناك زيادة مقابلة في مواقف المساواة بين الجنسين، بين الفتيان والفتيات.
وتُظهر الدراسات حول التأثير الرمزي لتمثيل المرأة أن وجود المرأة في الساحة السياسية يؤدي إلى زيادة مشاركتها السياسية أكثر من الرجل. إن التواجد في بيئة يكون فيها الوجود السياسي للمرأة هو المعيار يحفز النساء والفتيات على الإيمان بأنفسهن، وتطوير الطموح والثقة السياسية، والرغبة بالمشاركة في السياسة.
وتشير البحوث الميدانية أيضا إلى أن احتجاجات النساء تؤثر على المواقف الجنسانية للفتيات بشكل أقوى من الأولاد، لأنهن يتعاطفن أكثر مع المتظاهرات اللواتي يعملن كنماذج مباشرة لمساواة المرأة في سياسة الاحتجاج، ولذا فإن أحداث الاحتجاج النسائية ستؤدي إلى زيادة مواقف المساواة بين الجنسين لدى الفتيات أكثر من الأولاد، ولكنها ستؤدي إلى زيادة مواقف المساواة بين الجنسين في المجتمعات ذات المستويات المنخفضة من المساواة بين الجنسين أكثر من البلدان ذات المستويات العالية من المساواة بينهما.
نحن بإزاء نموذج يجب أن تلتقطه الحركات النسوية في منطقتنا والتي تصور قطاعا معتبرا منها، كنتيجة للرغبة في مكايدة للإسلاميين والخوف المشروع من بعض توجهاتهم أنه يمكن تحقيق تحرير المرأة بالتحالف مع النظم الاستبدادية، وهو ما ثبت إخفاقه، إذ تشير مؤشرات المساواة بين الجنسين في المنطقة إلى أنها في تراجع.
وهنا ملاحظة جديرة بالاعتبار، وهي أن النساء اللواتي يقمن بالمظاهرات في البلدان ذات المستويات العالية من عدم المساواة بين الجنسين قد يؤطرن احتجاجاتهن على أساس قيم أكثر تقليدية من أجل الوصول إلى مجموعة أوسع من السكان، ومن هنا تأتي أهمية الخطابات الثقافية/الدينية الحاضة على تحرير المرأة، ولكنها لا يجب على أية حال أن تكون بديلا من الحراك السياسي فدورها داعم له ومساند وليست بديلا.
المسك. مسك الحدث من أوله, الأخبار لحظة بلحظة
تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي ليصلكم الحدث في وقته.