ترند اليوم: مقاتلو «فاغنر» يبدأون الانسحاب من مدينة روستوف الروسية
مسك- متابعات عبر الصحف الإلكترونية:
يفغيني بريغوجين…«طباخ الكرملين» الذي قلب الطاولة وهز البلاد
مع وصول المواجهة بين زعيم مجموعة «فاغنر» يفغيني بريغوجين ووزارة الدفاع إلى ذروتها، اتخذ «طباخ الكرملين» كما عرفته وسائل الإعلام سنوات طويلة، قراره الحاسم بإطلاق تمرد عسكري واسع النطاق، أحدث زلزالاً داخلياً في روسيا، وجعل العالم يحبس أنفاسه وهو يراقب مسار تطور الوضع، وسرعة تحرك «فاغنر» باتجاه السيطرة على روستوف المدينة الاستراتيجية، التي كانت مركز انطلاق العمليات العسكرية نحو أوكرانيا، قبل أن ينطلق منها إلى فورونيج وليبيتسك في طريقه إلى كراسنودار، حيث مقر القطاع الجنوبي للجيش ومركز العمليات باتجاه شبه جزيرة القرم.
إذن، اختار بريغوجين طريق المواجهة ليس فقط مع وزارة الدفاع، بل مع كل مؤسسات السلطة في روسيا وعلى رأسها الكرملين. ربما كان الرجل حتى اللحظة الأخيرة يأمل في ألا ينحاز الرئيس فلاديمير بوتين إلى وزيره المقرب سيرغي شويغو في هذا الصراع، وأن يأمر بدلاً من ذلك بإيجاد حل وسط للأزمة كما جرت العادة في السابق، لكن بوتين المحاط بجنرالات الحرب وضغوط متزايدة على الصعيدين الداخلي والخارجي لم يكن ليسمح بوقوع عصيان مسلح في هذا التوقيت. هنا اتسع نطاق المواجهة، وانتقد بريغوجين «الخيار الخاطئ لبوتين»، والأهم من ذلك أنه وعد بأن يكون هناك رئيس جديد لروسيا قريباً.
كيف انتقل «طباخ الكرملين» من منفذ خفي لسياسات بوتين في أفريقيا وسوريا وأوكرانيا إلى عدو للمؤسسة العسكرية ومتمرد يدعو القيادات والجنود إلى الانضمام لقواته وتقويض سلطة وزارة الدفاع و«إصلاح الوضع» في روسيا وفقاً لوجهة نظره؟
وُلد بريغوجين عام 1961 في مدينة ليننغراد (سان بطرسبرغ حالياً) مسقط رأس الرئيس بوتين. وبرزت لديه ميول عدوانية منذ وقت مبكر، ولم يكن قد أكمل 18 عاماً عندما سجن للمرة الأولى في قضية سطو، وبعد سنتين خرج من السجن ليعود إليه سريعاً في 1981.
عندما كان بريغوجين يبلغ من العمر 20 عاماً، حكمت عليه محكمة في ليننغراد بالسجن 13 عاماً بموجب مواد القانون الجنائي بتهم السطو المسلح والاحتيال، لكنه حصل على عفو في عام 1990، ليخرج من سجنه ويبدأ مرحلة انطلاقة واكبت زمن الفوضى والانهيارات الكبرى في البلاد.
كان هذا المناخ السياسي والاقتصادي في البلاد مواتياً لرجل من أصحاب السوابق يعرف كيف يقيم علاقات مع رجال المال والسلطة، لذلك صعد الرجل سريعاً في عالم المال والنفوذ، وبعدما أسس في البداية سلسلة مطاعم وجبات سريعة لبيع النقانق في سان بطرسبرغ، افتتح بعد ثلاث سنوات فقط سلسلة متاجر كبرى.
وفي عام 1996 أسس شركة «كونكورد» التي تولت إدارة أعماله وتوسيعها خلال السنوات اللاحقة.
في ربيع عام 1998 افتتح مطعماً فاخراً على ظهر سفينة غدت مركز جذب للنخب السياسية والاقتصادية، وفي عام 2001، أقيمت مأدبة عشاء في هذا المطعم جمعت الرئيسين الروسي مع نظيره الفرنسي جاك شيراك، وفي العام التالي استقبل بوتين الرئيس جورج بوش الابن في هذا المطعم. وفي خريف عام 2003، احتفل بوتين بعيد ميلاده على متن السفينة.
كانت تلك النقلة التي سهلت له التغلغل في الأوساط السياسية ومراكز النفوذ، وسرعان ما حصل على عوائد كبيرة من خلال نيله صفقات كبرى في قطاع البناء والأطعمة، وغدا المتعهد الرسمي لإطعام الجيش الروسي وقطاع التعليم كله في موسكو ومدن أخرى.
على مدار السنوات اللاحقة انتقل نشاط بريغوجين إلى المجال العسكري، بعد تأسيس مجموعة «فاغنر» التي نشطت في بلدان أفريقية عدة مقابل الحصول على صفقات مهمة من الألماس الخام. وفي سوريا وقعت شركة «كونكورد» عقداً مهماً لحماية المنشآت النفطية مقابل الحصول على ربع الناتج النفطي في البلاد. هكذا تحول بريغوجين ومجموعته إلى منفذ خفي لسياسات الكرملين الخارجية، مع ضمانات له بأن يحصل دائماً على مكافآت مجزية من الصفقات التي يعقدها.
برز اسم بريغوجين في وسائل الإعلام الغربية في 2016 بعد أن فرضت عليه الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية، لدور إحدى شركاته «وكالة الأبحاث على الإنترنت» في التأثير بالانتخابات الأميركية التي أدت إلى وصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. كما فرض الاتحاد الأوروبي عليه عقوبات لدوره في مجموعة «فاغنر» في أوكرانيا.
في كل مراحل صعوده القوي ارتبط اسم بريغوجين بالفساد والمحسوبية وممارسات عدة استخدم من خلالها نفوذه لدى الأوساط السياسية، من بين ذلك ما أكده المعارض الموجود في السجون الروسية أليكسي نافالني في أحد تحقيقاته من أن بريغوجين كان مرتبطاً بشركة تدعى «موسكوفسكي شكولنيك» (تلميذ موسكو)، التي استغلت حصولها على عقد ضخم لتزويد المدارس الروسية بالطعام، وقدمت طعاماً فاسداً إلى مدارس موسكو، ما تسبب في تفشي مرض الزحار.
الخلاف مع وزارة الدفاع
في 5 مايو (أيار) وجّه زعيم «فاغنر» يفغيني بريغوجين اتهامات مباشرة للمرة الأولى إلى وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس الأركان فاليري غيراسيموف بالتسبب بمقتل كثير من عناصره بسبب عدم تقديم الأسلحة والذخائر التي طلبتها مجموعته من وزارة الدفاع. ووفقاً له أدى نقص الأسلحة إلى سقوط الكثيرين وإبطاء العملية العسكرية الهادفة منذ نحو 9 أشهر للسيطرة على مدينة باخموت الاستراتيجية في جنوب أوكرانيا.
كان بريغوجين قد اعتاد توجيه انتقادات إلى وزارة الدفاع ومن يصفهم بـ«البيروقراطيين» في المؤسسة العسكرية الذين لا يقومون بتلبية الاحتياجات للمقاتلين بالشكل المطلوب، لكن الجديد هنا، كان اتهام الوزير ورئيس الأركان شخصياً بالتسبب بسقوط قتلى لإفشال المهمة العسكرية في باخموت. وأتبع الرجل ذلك بإعلان نيته سحب قواته من المدينة في موعد حتى العاشر من مايو.
النقطة الثانية المهمة تمثلت في اختيار توقيت تفجير الأزمة، في ظل رزمة من التعقيدات.
وجاء ذلك مع تحضيرات روسيا للاحتفال بعيد النصر على النازية في التاسع من مايو، وهي مناسبة لها خصوصية مهمة في المجتمع الروسي، العنصر الآخر في التوقيت، تمثل في أن معركة باخموت كانت عملياً تقترب من نهايتها، ووفقاً لبريغوجين لم يكن قد تبقى سوى أقل من 3 كيلومترات مربعة من المدينة تحت سيطرة كييف، ودفع وقف القتال في هذا التوقيت إلى إثارة علامات استفهام واسعة.
أما النقطة الثالثة اللافتة فقد تمثلت في تريث الكرملين في التعليق على الحدث الذي أثار موجة واسعة من السخط والخيبة لدى الأوساط السياسية والبرلمانية والاجتماعية الروسية. وبدا من ذلك أن الكرملين لم يحسم بعد خياراته تجاه الصراع المتفاقم بين «فاغنر» ووزارة الدفاع.
وصحيح أن الأزمة شهدت تخفيفاً لحدتها على المستوى العلني لاحقاً، من خلال إعلان بريغوجين بعد أربعة أيام أنه حصل على وعود باستئناف تزويد قواته بالعتاد اللازم، لكن تداعياتها سوف تتواصل.
تفاقم الصراع الخفي
قد تكون هذه واحدة من المرات النادرة في روسيا التي ينتقل فيها التنافس بين مراكز الثقل المختلفة إلى هذا المستوى من الاتهامات المباشرة والعلنية، خصوصاً أن أطراف الأزمة كلهم من الشخصيات المقربة جداً إلى الرئيس فلاديمير بوتين، ويحمل هذا الأمر انعكاسات مهمة لجهة مستوى التأثيرات الخطرة التي أحدثها تباين المواقف حيال الحرب الأوكرانية على الدائرة الضيقة المقربة من بوتين.
ولا شك في أن الصراع بين يفغيني بريغوجين وقيادة القوات المسلحة ليس جديداً، بل تطور على مدى فترة طويلة للغاية.
لكن الخلافات في ذلك الوقت لم تنتقل إلى العلن، في حين أن أسباباً تراكمت لتفاقم الصراع حالياً، بينها بالدرجة الأولى الطموحات الشخصية لبريغوجين الذي وجد في الحرب الأوكرانية فرصة سانحة لإعادة ترتيب أولوياته. ومنذ خريف العام الماضي، عُهد بالمهمة الأكثر صعوبة ودموية المتمثلة في اقتحام المنطقة المحصنة الضخمة للقوات المسلحة الأوكرانية، والتي تضمنت تكتل مدينتي سوليدار وباخموت، إلى شركة «فاغنر». ولمدة أربعة أشهر، لم تعد قوات «فاغنر» اللاعب الرئيسي الذي يصنع الأخبار العسكرية فحسب، بل قامت بسحب جزء مهم من احتياطيات القوات المسلحة الأوكرانية المعدة للهجوم الشتوي. ويصعب الحكم على مدى استياء القيادة العسكرية من ذلك، خصوصاً على خلفية الاتهامات التي كيلت للجيش بالتعثر وارتكاب سلسلة من الأخطاء الميدانية والاستراتيجية في إدارة المعركة قبل الخريف، لكن اللافت هنا أن مشاركة «فاغنر» في الأعمال القتالية غدت علنية ورسمية، وباتت بياناتها تنشر في وسائل الإعلام الحكومية، للمرة الأولى منذ تأسيسها.
أيضاً، تشير الانتقادات التي وجهها بريغوجين إلى أن التنافس على الموارد الضخمة كان السبب الأساسي الذي أسفر عن بدء هذه المواجهة. بالتأكيد لا يمكن تجاهل أن جزءاً من هذا التنافس يستند إلى مساعي كل طرف للفوز بحصة أكبر من الموارد المالية المخصصة للحرب، بما في ذلك على صعيد المكافآت والموازنات العسكرية. وقد برز ذلك من خلال سعي مجموعة «فاغنر» إلى إدراج مقاتليها على لوائح التعويضات للقتلى والجرحى والمصابين أسوة بالعسكريين النظاميين.
لكن الأهم من ذلك، أن هذا الصراع كشف عن محاولات كل قطب لتوسيع دائرة النفوذ داخل المؤسسة العسكرية على حساب الطرف الآخر. وهذا دلت إليه مسارعة بريغوجين مثلاً إلى استقطاب جنرالات تمت إقالتهم من وزارة الدفاع، ودمجهم بعد التقاعد في صفوف مجموعته. هذا التطور عكس تنامي ظاهرة «المحاور» و«مراكز الثقل» داخل الجيش والمؤسسة العسكرية عموماً، التي تلتهم سنوياً، وحتى قبل الحرب الأوكرانية، أكثر من خمس الموازنة الروسية.
خلاف على مسار الحرب
يضاف إلى الأسباب السابقة أن التباين في آليات التعامل مع الحرب الأوكرانية أدخل الطرفين في مرحلة جديدة من الخلاف على وجهات النظر حول آليات إدارة الحرب، ومسارها المنتظر. وبعد انتقادات كبرى لم تكن «فاغنر» أحد الأطراف البعيدة عنها، أثيرت ضد المؤسسة العسكرية وأجهزة الاستخبارات التي فشلت في وضع تصورات لمستوى أعداد القوات الأوكرانية، ومدى جاهزيتها لمواجهة حرب شاملة، استخدمت قوات «فاغنر» بقوة الفشل العسكري والاستخباراتي الذي ظهر في الشهور الأولى للحرب من خلال التعثر الميداني، لإظهار أنها قادرة على تعويض النقص في القدرات القتالية، مستفيدة من امتلاكها وحدات اقتحام مدربة جيداً، وقادرة كما هو الوضع بالنسبة لقوات الرئيس الشيشاني رمضان قاديروف على إدارة حرب شوارع والتقدم في الظروف الصعبة في المدن والبلدات المحصنة. وبالفعل فقد أظهرت تطورات الحرب الأوكرانية أن الجيش الذي كان يستعد لحرب نظامية تقليدية تحسم بالدرجة الأولى عن طريق الضغط الجوي واستخدام الآليات الثقيلة والصواريخ الموجهة، يفتقد لقدرات مهمة في مجال الحرب المباشرة وقدرات الاشتباك المباشر، ما دفعه إلى الاضطرار للاعتماد على «القوات الحليفة» وهو ما يبرر الإعلان رسمياً في خريف العام الماضي عن انخراط «فاغنر» في القتال، رغم أن هذه المجموعة موجودة بالفعل على أراضي أوكرانيا منذ اندلاع النزاع للمرة الأولى في 2014.
لكن الخلاف على مسار العمليات القتالية لم يظهر في هذا المجال فقط؛ إذ بدا من تصريحات بريغوجين خلال الشهر الأخير أن التباين وصل إلى مراحل متقدمة.
وفي أواسط أبريل (نيسان) الماضي، نشر زعيم «فاغنر» مقالة لافتة للأنظار، رأى فيها أنه من الضروري للسلطات والمجتمع الروسي وضع «نقطة جريئة» في العملية العسكرية الخاصة. وفي رأيه، سيكون «الخيار المثالي» هو الإعلان عن انتهاء العملية. منذ ذلك الوقت كانت أوساط كثيرة في روسيا ترى أن لحظة الانفجار الكامل في العلاقة قد باتت قريبة.
المسك. مسك الحدث من أوله, الأخبار لحظة بلحظة