فيكتور بوت.. هل تدفع أفريقيا ثمن تحرير تاجر سلاح روسي؟

المسك- متابعات عاجلة:
بدأت الحكاية حين سمحت تايلاند بتسليم رجل الأعمال الروسي “فيكتور بوت” يوم 25 أغسطس/آب 2010 إلى الولايات المتحدة، الذي تصفه وسائل الإعلام الغربية بـ”تاجر الموت”. وقد حوكم بوت في نيويورك وحُكم عليه بالسجن لمدة 25 عاما وأُدين بتهم الإرهاب عام 2012، وتؤكد الرواية الرسمية الأميركية أن بوت تاجر سلاح دعم النزاعات والأزمات في بلاد مختلفة حول العالم وتحديدا في أفريقيا، في حين قالت الرواية الروسية إنه تعرض للظلم، وإنها ستدعمه حتى يخرج من محنته بشتى السبل الممكنة. فيما قالت أسرة بوت حينها إن تسليمه للولايات المتحدة مخالف للقانون، وإنه ضحية من ضحايا الهيمنة الأميركية.
انتهت قصة بوت في ديسمبر/كانون الأول 2022، بعدما نجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في اقتناص اتفاق مع الولايات المتحدة بإخلاء سبيل بوت مقابل إخلاء سبيل لاعبة كرة السلة الأميركية “بريتني غرينر” التي كانت محتجزة في روسيا. وقد نُفِّذ الاتفاق بالفعل وعاد بوت أخيرا إلى روسيا، في مشهد أثار غضب العديد من الكتاب في الولايات المتحدة، الذين لم يروا فقط أن ما حدث انتصار سياسي لبوتين في وقت هو في أشد الاحتياج إليه، بل ورأوا أن خروج بوت قد يتسبَّب في المزيد من النزاعات والكوارث المرتقبة في أفريقيا.
لطالما كان بوت شخصية مثيرة للاهتمام في الولايات المتحدة، إلى درجة أن الأسطورة المحيطة بنشاطاته ألهمت الفيلم الأميركي الشهير “سيد الحرب” (2005)، وذلك حتى قبل القبض عليه بسنوات، إذ اعتبرت الولايات المتحدة منذ عهد الرئيس “بيل كلينتون” أن بوت رجل خطير، وحاولت مقاضاته منذ بداية العقد الأول من الألفية، غير أن ذلك لم يمنع واشنطن من التعاون مع الرجل حين احتاجت إليه في الفترة نفسها، حيث إن شركة بوت كانت واحدة من الشركات التي تعاقدت معها الحكومة الأميركية لنقل الإمدادات إلى العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003. بيد أن القانون الأميركي لم يُتِح محاكمة بوت لأنه لم يرتكب ما يجعله مُدانا في نظر القانون، ومن ثم استدرج عملاء أميركيون رجل الأعمال الروسي تحت دعوى أنهما قياديان من حركة التمرُّد الكولومبية “فاركو” التي صنَّفتها الولايات المتحدة آنذاك منظمة إرهابية، ومن ثمَّ أثبتا عليه التهم التي تجعله مُدانا في نظر القانون الأميركي.
وهكذا تظل قصة بوت غنية بالتفاصيل، لا سيما حين نقارن الرواية الأميركية بالرواية الروسية، وننظر في أسباب اهتمام الحكومة الروسية بقضيته طوال تلك الفترة رغم إصرار روسيا على أنه رجل أعمال عادي، بالإضافة إلى المخاوف المُثارة حاليا بعد الإفراج عنه، وخاصة في الصحافة الأميركية حيث يشتهر الرجل بألقاب مثل “بائع الموت” و”أمير الحرب”.
تاجر الموت.. بين الحقيقة والبروباغندا الأميركية
وُلد بوت في مدينة “دوشَنْبه” عاصمة طاجيكستان تحت حكم الاتحاد السوفيتي السابق عام 1967، لأب كان يعمل ميكانيكي سيارات وأم تعمل في مجال المحاسبة، وكان منذ صباه مولعا بتحقيق الأرباح والمغامرة، إذ كان ينسخ أغاني البوب المحظورة في الاتحاد السوفيتي ويبيعها ليزيد من مصروفه الشهري، كما تعلم أشياء غريبة مثل لغة الإسبرانتو، وهي لغة سهلة مصطنعة هدفها إزالة الحواجز اللغوية بين القوميات المختلفة. في الوقت نفسه الذي تمتع فيه بوت بتلك الروح المغامرة في دولة شمولية لا تحب المغامرين، أدرك بوت أهمية أن يظل في كنف النظام، فانضم إلى الاتحاد الشيوعي للشباب، والتحق بالمعهد العسكري للغات الأجنبية في موسكو، ومع الوقت استطاع أن يُجيد ست لغات.
وخلال فترة عمله بالجيش بدأت رحلة بوت مع أفريقيا، تلك الرحلة التي أُسيل حولها الكثير من الحبر بعد ذلك. فقد عمل مترجما في موزمبيق وأنغولا، وخبر الأجواء الأفريقية وصراعاتها جيدا، لكن رحلة صعوده الصاروخية بدأت تحديدا مع انهيار الاتحاد السوفيتي، إذ كوَّن حينئذ المال والعلاقات بما يكفي لشراء أسطول سوفيتي قديم من طائرات الشحن العسكرية، ومن ثمَّ بدأ من مجال الشحن الجوي في تأسيس إمبراطوريته. حتى تلك اللحظة لا يوجد خلاف كبير حول تفاصيل حياة بوت، فقد قدم رجل الأعمال الروسي الكثير من الخدمات قانونيا في هذا الوقت لدول مثل فرنسا والولايات المتحدة، لكن ما حدث بعد ذلك سيكون محور الخلاف الكبير بين الروايتين الغربية والروسية حول الرجل الذي جسَّد شخصيته الممثل الأميركي “نيكولاس كيدج” في فيلم “سيد الحرب”.
بحسب منظمة العفو الدولية، تورَّط بوت في انتهاك حظر الأسلحة المفروض من قِبَل الأمم المتحدة في دول مثل أنغولا وسيراليون وليبريا والكونغو الديمقراطية، ومن هنا بات واحدا من أبرز صناع الاضطرابات وتجار الموت في القارة السمراء، وذراع روسيا لتهديد السلام ودعم الأنظمة الاستبدادية وفقا للسردية الغربية. وقد قالت الولايات المتحدة إن بوت متورط في تهريب الأسلحة منذ تسعينيات القرن الماضي، ودليلها الأبرز استدراج العملاء الأميركيين له كما ذكرنا، فقد طلب هؤلاء منه أسلحة مضادة للطائرات، وحين أخبروه أن الأسلحة يمكن أن تُستخدم لإسقاط الطائرات وشرحوا له كيف حوَّلت الحكومة الكولومبية ومستشاروها العسكريون حياة الكولومبيين إلى جحيم، أجاب بوت: “عدونا هو عدوكم”.
كانت نتيجة المقابلة موافقة بوت على تزويد هؤلاء المتنكرين بـ100 صاروخ أرض-جو، و20 ألف بندقية من طراز “أك-47″، و20 ألف قنبلة يدوية، و740 قذيفة هاون، و350 بندقية قنص، و10 ملايين طلقة. ومع ذلك قالت القاضية المسؤولة عن قضيته إن الحد الأدنى للعقوبة كان مناسبا له، لأنه لا يوجد دليل على أن بوت كان سيرتكب الجرائم التي أُدين بارتكابها لولا إغراؤه واستدراجه من قِبَل العملاء الأميركيين. وقد زعمت مصادر صحفية أميركية أن بوت زوَّد طالبان نفسها بـ200 دبابة من طراز “تي-90″، واستشهدوا بحقيقة أنه استطاع أن يجعل حركة طالبان تُفرج عن طاقم إحدى طائراته التي تمكَّنت الحركة من توقيفها في أفغانستان عام 1995. من جهته، ينفي بوت الاتهامات الموجهة إليه، مؤكدا أن الولايات المتحدة لا تمتلك أي دليل على أنه زوَّد طالبان بالسلاح، وأن وجوده في أفغانستان في تسعينيات القرن الماضي لم يتضمَّن بيع أي أسلحة.
تاجر الموت في أفريقيا
يقول “بيتر هاين”، وزير الخارجية البريطاني السابق، إن بوت هو القناة التي توفر طرق الإمداد لنقل السلاح من أوروبا الشرقية، وتحديدا بلغاريا ومولدوفا وأوكرانيا، إلى ليبيريا وأنغولا. وهكذا، يُصر صناع القرار في الولايات المتحدة ودول أوروبا على أن بوت بالفعل من أهم تجار السلاح الذين استغلوا التسيُّب بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وتسرُّب الأسلحة السوفيتية للسوق السوداء، مستخدما الشبكات الاجتماعية والعسكرية والتجارية السوفيتية القديمة لتطوير شركات وهمية وإخفاء المعلومات والتهرُّب من عيون المراقبة الدولية، ومن ثمَّ الاتجار في السلاح على نطاق واسع.
بطبيعة الحال، تنفي الرواية الرسمية الروسية الاتهامات الأميركية، وتؤكد أن قضية بوت مُسيَّسة، وأنه رجل أعمال عادي ليس إلا. ولذا ظل الكرملين طوال السنوات العشر الماضية يطالب بالإفراج عن بون ويعرض المقايضات لتحقيق مسعاه حتى نجح أخيرا. ويسوق البعض حماس روسيا الكبير لاستعادة بوت بوصفه دليلا على أن الرجل ليس محض رجل أعمال، وإنما أحد أهم رجال المخابرات الروسية التي لا تتخلَّى بسهولة عن رجالها. ويقول “مارك جالوتي”، الخبير في مجال العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والشؤون الروسية، إن هناك مؤشرات قوية على أن بوت عضو فاعل في منظومة الجيش والمخابرات الروسية، بداية من مسار تعليمه وصولا إلى شبكاته الاجتماعية والمهنية، في حين ينفي بوت أنه عضو في الاستخبارات أو أي أجهزة أمنية روسية.
في مقال للصحافي الإنجليزي “مات بوتير” بمجلة “التايمز”، وهو صاحب الفيلم الوثائقي الحاصد للجوائز “السيد بوت سيئ السمعة”، عرض الرجل زاوية مختلفة للنظر للأمر. فالطريقة التي تناول الكثيرون بها قضية بوت مالت إلى التبسيط المُخِل على حد قوله، من خلال رؤية العالم منقسما بين أبطال وأشرار، وأن النظر إلى عالم تجارة الأسلحة ينبغي أن يكون أعمق من ذلك، فعالم تجارة الأسلحة مليء بأسماء كبيرة مثل روسيا والصين وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة، ولا يدور بالطبع حول عدد من الأفراد مهما بلغت أهميتهم.
يذكرنا بوتير بأن الحكومات الغربية لا تتردد في توجيه السلاح لمناطق مختلفة حول العالم حين تشعر أن من الصواب فعل ذلك، بداية من المجاهدين في أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتي في الثمانينيات، ووصولا إلى أوكرانيا اليوم، وأنها مثل روسيا تستخدم مقاولين من الباطن لشحن السلاح. ويُذكّرنا أيضا بأن شركة بوت والشركات الروسية المشبوهة مثلها كانت الوحيدة التي وافقت على إرسال مساعدات جوية لأفغانستان عام 2003 رغم صواريخ طالبان، وأن الأمم المتحدة نفسها طلبت من تلك الشركات على مر السنين الخدمات اللوجستية التي تحتاج إليها في عمليات حفظ السلام المختلفة. وقد أشار بوتير أيضا إلى أن القاضية التي حكمت على بوت بالسجن 25 عاما صرَّحت بعد تقاعدها بأنها تعتقد أن العقوبة كانت أقسى من اللازم.
بعد الإفراج.. هل تنتظر أفريقيا اضطرابات أخرى؟
مع كل هذا الجدل حول الرجل وإرثه، أثار الإفراج عن بوت مقابل السجينة الأميركية في سجون روسيا غضبا وانتقادات كثيرة في وسائل الإعلام الأميركية، التي تحدَّث بعضها عن الدور الذي يمكن أن يلعبه الرجل مرة أخرى في أفريقيا، فقد أمدَّ الرجل في السابق أمراء الحرب بالسلاح ومكَّنهم من انتهاك حقوق الإنسان وسبي النساء وتجنيد الأطفال في دول عديدة بالقارة السمراء. ومن ثم يرى هؤلاء الناقدون أن أميركا لم تخسر فقط معركة سياسية صغَّرتها أمام بوتين، بل إنها أفرجت عن رجل قد يقدم مشورات فعالة وقاتلة في الوقت نفسه للطبقة الحاكمة الروسية التي تساهم سياساتها في زعزعة استقرار أفريقيا، وعلى رأسها مجموعة “فاغنر” شبه العسكرية، التي رحَّب مؤسسها بالإفراج عن بوت. ورغم أن احتمالية تأثير بوت على حرب أوكرانيا بعيدة، فإن احتمالات تأثيره على أفريقيا كبيرة، إذ تعمل روسيا على حماية الأنظمة الدكتاتورية الموالية لها في القارة.
بحسب “تيم ويتيج” الباحث الأميركي المتخصص في الدراسات السياسية المرتبطة بتمويل التهديدات السياسية، فإن مهارات بوت اللوجستية واتصالاته وانضباطه تفوق كثيرا قدرات مجموعة فاغنر، ومن ثم بإمكانه أن يزيد فاغنر قوة بوجوده مجددا في روسيا، وسيكون من الصعب بعد ذلك إزاحة المجموعة من الصورة في أفريقيا. جدير بالذكر أيضا أن واحدة من أهم النقاط المرتبطة بالإفراج عن بوت وتأثيراته على صورة الولايات المتحدة هو أن 7 وكالات استخباراتية لدول أجنبية تعاونت مع أميركا للقبض على بوت، لكن بعد الإفراج عنه ربما تتزعزع هيبة أميركا عند هؤلاء الشركاء.
من جانبه، أعلن بوت فور خروجه تأييده للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، لكنَّ المسؤولين الأميركيين قالوا إنها تعليقات غير ذات أهمية، وأن ما ينبغي التركيز عليه هو ما يُمثِّل خطرا حقيقيا على الأوكرانيين من جهة، وما يُمكن أن يُمثِّله بوت نفسه من خطورة في أفريقيا من جهة أخرى. هذا وصرح مستشار الرئيس الأميركي للأمن القومي “جيك سوليفان” أن واشنطن ستُتابع المخاطر المحتملة على أمن الولايات المتحدة من جانب فيكتور بوت بعد الإفراج عنه، لا سيما أن الرجل ليس مُدرجا على قوائم الإرهاب، بل مُدان بتجارة الأسلحة بشكل غير قانوني ليس إلا.
بالنظر إلى حملة العقوبات الصارمة ضد رجال الكرملين المعروفين، فإن عزوف واشنطن عن إدراجه على قائمة الإرهاب واستعدادها لإطلاق سراحه مقابل لاعبة كرة سلة يدل على أن الرجل ليس بالضرورة الخطر الجسيم الذي تُصوِّره الصحافة الأميركية، على الأقل من منظور أجهزة الأمن الأميركية. بيد أنه ليس محض رجل أعمال عادي كما تدَّعي روسيا بطبيعة الحال كما أثبتت عملية اعتقاله وسجل نشاطاته في أفريقيا، التي قد يدفع سكان بعض بلدانها المُمزقة وحدهم ثمن تلك الصفقة. وتبدو المفارقة هُنا جلية، إذ إن الرجل لم يكن ليُطلق سراحه بتلك السهولة لو أنه ضلع في ترويع الأوكرانيين وتهديد أوروبا مباشرة، بيد أن الأرواح الأفريقية وحدها، فيما يبدو، ليست كافية لتجعله مجرما لا هوادة في عقابه.
___________________________________________
المصادر:
- The Dark Truth About Viktor Bout
- Who Is Viktor Bout, the Arms Dealer in the Swap for Brittney Griner?
- فيكتور بوت: الحكومة الأميركية تلعب لعبة حقيرة بالضغط على سلطات الدول
- Who is Viktor Bout?
- Viktor Bout’s Release Is Hailed in Russia as a Kremlin Victory
- Russia wanted Viktor Bout back, badly. The question is: Why?
- واشنطن: سنتابع المخاطر المحتملة الصادرة من بوت بعد الإفراج عنه
- ‘The Merchant of Death Is Back in Action’
- Who is Viktor Bout, Russian man at centre of US prisoner ‘swap’?
- Biden admin declines to call Viktor Bout a terrorist, says it remains ‘vigilant’ against threat to Americans
المسك. مسك الحدث من أوله, الأخبار لحظة بلحظة
تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي ليصلكم الحدث في وقته.