المسك

موقع اخباري منوع

المسجد الجامع في قصبة إشبيلية

المسك- متابعات عاجلة:

المسجد الجامع في قصبة إشبيلية، أسسه أبو يعقوب يوسف، ثاني خلفاء دولة الموحدين، وأكمل ابنه يعقوب المنصور بناء المئذنة، وكانت أطول بناء في العالم خلال القرن الـ12.

ثاني جامع بني في إشبيلية بالأندلس مند تأسيسها في العصر الإسلامي، استغرق بناؤه حوالي 10 سنوات، وكان آية في الجمال العمراني الذي يعكس الفن الإسلامي في تلك الحقبة، وأحد المساجد التي شكلت مسار الرحلة المعمارية الدينية للموحدين، وثالث أكبر مسجد في الغرب الإسلامي.

من خصائصه أن الدخول إليه كان من 15 بابا، وفيه بهو رئيس تزينه أشجار البرتقال، ومئذنة (الخيرالدة) كما يسميها الإسبان، يفصح معمارها وإبداعها عن أصولها التاريخية الإسلامية وبنائها العربي، وتعد اليوم من أعظم آثار الموحدين الباقية في إشبيلية.

التأسيس والإنشاء

يرجع تاريخ إنشاء ثاني مسجد جامع في إشبيلية، إلى عهد الخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن (حكم ما بين 1163 و1184)، وكان محبّا للفنون والآداب، مولعا بالعمارة والتشييد.

وأمر ثاني خلفاء دولة الموحدين ببناء هذا الجامع الجديد في ملتقى الطرق الكبرى، عند مدخل قصبة إشبيلية لمّا ضاق بالمصلين الجامع الأول المعروف بجامع ابن عديِّس، بعد مرور 3 قرون على بنائه في عهد عبد الرحمن الأوسط.

وكانوا يصلون في رحاب جامع ابن عديِّس وأقبيته وفي حوانيت الأسواق المتصلة به، فيبعد عنهم التكبير بالفريضة.

وكان أبو يعقوب يرغب في أن يُحاكي جامعه الجامع العتيد لقرطبة، سعة وارتفاعا وزخرفة، وعَهِد إلى أحمد بن باسه الأشبيلي، أكبر مهندسي عصره، بوضع تصاميم الجامع وقيادة أعمال التشييد فيه، ومعه نخبة من البنَّائين من أهل الأندلس وفاس ومراكش.

وبدأ بناء الجامع في شهر رمضان عام 1172، فهدّمت الديار داخل القصبة، وأخلي المكان ليحتضن هذا المعلم الكبير، وكلف وزيره محمد بن عبد الملك بن زهر بالإشراف على مراحل إنشائه.

وقيل إن أساسات جدران الجامع حُفرت حتى ظهر الماء من باطن الأرض، ثم وضعت الأساسات من الآجر والجير والجص والأحجار.

وظل البناء مستمرا 3 أعوام و11 شهرا، وكان الخليفة يتابع الأعمال بنفسه، إلى أن انتهى العمل في جوانبه الأربعة وجرى الربط بين أروقته والقباب.

واستكمل بناء السقف عام 1176، فأمر باستخدام المبنى الذي جرى افتتاحه في 14 أبريل/نيسان 1182، في احتفال حضره مع ولي عهده، وجميع أبنائه وشيوخ وأعيان المدينة.

وانتهى دور مسجد ابن عديِّس كمسجد جامع، عندما ألقيت أول خطبة جمعة في الجامع الكبير الجديد، وكان فسيحا، وفي حرمه 17 أسطوانة، وله 5 قباب قائمة على جدار القبلة.

عمارة الجامع

تخطيط  الجامع الأعظم يتبع طراز المسجد الجامع التقليدي، وهو الصحن الأوسط، والأربع ظلات المحيطة به، منها ظلة القبلة التي تشغل ثلثي مساحة المبنى، وتتكون من 17 بلاطة، أما الظلتان الجانبيتان فتتكون كل منهما من بلاطة واحدة فقط.

وكان الدخول إليه عبر 15 بابا، 7 منها في الضلعين الشرقي والغربي، والباقي في الضلع الشمالي، والباب الرئيسي يعرف بـ”باب الزعفران”.

ويتكون من 17 رواقا عموديا على جدار القبلة، واتخذت السقوف أشكالا هرمية إلى يمين المحراب، وفتحت كوة في حائط المسجد (حائط القبلة)، لوضع المنبر المصنوع من الخشب، والمرصع بالصندل المعشق المطعم بالعاج ورقائق الذهب والفضة.

ثم أقيمت مقصورة أحاطت بالمحراب والمنبر لصلاة الخليفة، وبُني ساباك يربط بين المسجد والقصر؛ كان معدا ليمشي فيه الخليفة أثناء خروجه من قصره إلى الجامع لحضور الصلاة.

ويذكر المؤرخون أن الجامع جمع بين صور إنشائية وفنية، ظهرت في مساجد الموحدين في مراكش، وصور أخرى مستوحاة من جامع قرطبة، الذي أخذ منه مظهره الخارجي، وعظمة صحنه، كما اقتبس منه أسلوب زخارفه ونظام عقوده، وفي عدد بلاطاته الـ11، والتي كانت تتجه عمودية إلى جدار القبلة، وتتراوح ما بين 48 و50 مترا.

وبلغ ارتفاعه 37 مترا في منتصفه، وقُدّر اتساعه على وجه التقريب بـ150 مترا في الطول، و110 أمتار في العرض.

وتشير الحوليات إلى أن الجامع كانت له ميضأة شيدها يعقوب المنصور عام 1199، وعثر عليها في حفريات جرت عام 1994 أمام الخيرالدة وبالقرب منها، لكن لا يعرف النمط الذي كانت عليه عمارتها.

بناء المئذنة

كان الجامع عند افتتاحه بلا مئذنة، فعهد الخليفة أبو يعقوب إلى واليه أبو داود جلول بن جلدسان ببناء صومعة، على الجدار الشمالي للجامع، وكان ذلك عند وصوله إلى إشبيلية في غزوته إلى “شنترين” عام 1184، لكن تعطل البناء بموتهما.

وفي عام 1188، أمر خليفته أبو يوسف يعقوب الملقب بـ”المنصور” الوالي الجديد بالإشراف على إتمام مشروع أبيه، وبدأ بناء منارة الجامع في مراحلها الأولى، المهندس أحمد ابن باسة، بالحجر المُسمَّى الطَّجُون العادي المنقول من سور قصر ابن عَبَّاد.

وبعد وفاته، تابع العمل المهندس المغربي علي الغماري، فعدّل ما اختل من بناء الجامع في السنوات السابقة من جهاته الأربع، أو من جهة دعاماته وحيطانه وسقوفه، وكانت له إضافات جديدة كالشمسيات الزجاجية، وإحكام تسقيف سطوحه بالآجر من الخارج.

دام العمل في البناء أعواما، وكان يتعطل إذا غادر الخليفة إشبيلية إلى مراكش، ثم يستأنف متى حضر، وكان يلازم الجلوس بنفسه إلى البنّائين في المدد التي كان يعاود فيها البناء.

Seville,Spain-12 18 2015:The Seville Cathedral,a Gothic landmark with its Moorish style bell tower, known as The Giralda and which was originally built as the minaret for the Great Mosque of Seville
تحولت مئذنة المسجد إلى برج للأجراس ملحق بالكنيسة (شترستوك)

وفي عام 1195، استقبل أهل إشبيلية جيش يعقوب المنصور المنتصر في معركة الأرك على ملك قشتالة، برفع راية بيضاء وخضراء فوق الجامع، (قطعة القماش ستلهم في قرون لاحقة بلاس إنفانتي لجعلها الراية الحالية لمنطقة الأندلس ذاتية الحكم).

وكان المنصور قد استغل الخُمس الباقي من غنائم المعركة في بناء الجامع تخليدا لذكراها، وأنشأ له مئذنة أخذت شكلها النهائي بعد مضي 3 سنوات.

وذلك حين أمر بتزويدها بـ4 تفافيح ذهبية، وأشرف المعلم أبو الليث الصقلي على صنعها، ورفعها إلى أعلى المنارة.

ورُكّبت التفافيح متوالية بعضها فوق بعض بسفود حديدي بارز في أعلى قبة المئذنة، ثم أزيحت الأغشية التي كانت تغطيها خلال فترة الإعداد؛ في احتفال حضره الخليفة وولي عهده الناصر وجميع أبنائه، وشيوخ الموحدين وحاشيته، وقاضي وأعيان المدينة، عام 1197.

منارة الأندلس

بنيت المئذنة الموحدية من الآجر (الطابوق)، وكان شكلها برجيا ذا قاعدة مربعة الشكل وبداخلها نواة مربعة أيضا، ويلتف حولها منحدر صاعد تعلوه قباب متقاطعة. وتحتوي النواة المركزية على 7 غرف ذات تخطيط مربع، 5 منها مسقوفة بقباب نصف كروية.

وتنتهي المئذنة ببرج أصغر حجما، في أعلاها عمود ضخم يحمل 4 تفافيح وزنها 7 آلاف مثقال، وقَدّر عبد الهادي التازي محقق كتاب “المن بالإمامة” لابن صاحب الصلاة، وزن الذهب الذي طليت به بنحو 29 كيلوغراما ونصف الكيلوغرام.

ويبلغ ارتفاع منارة المنصور 96 مترا، إذ جاوز علوها منارة جامع قرطبة، التي كانت حتى ذلك الحين أعلى مئذنة في المغرب والأندلس.

ومن خصائصها أنه لا يُصعد إليها بدرج، بل بواسطة ممرات منحدرة صاعدة مرصوفة بالآجر، في ثلثها الأوسط 4 طبقات من المخادع الجانبية، ولها نوافذ وشرفات عربية، وزينت واجهاتها بنقوش عربية ومغربية بديعة.

وتعلو طبقاتها الأربع طبقة خامسة، ذات أروقة ومشرفيات عالية، يرجح أنها كانت طبقة المؤذنين، وبعد ذلك الطبقة الأخيرة، وقيل إن المؤذن كان يصعد إلى أعلى المنارة، وهو راكب حصانه لكي ينادي للصلاة.

ووصف بعض المؤرخين هذه المعلمة، بأن “لا صومعة تعدلها في جميع مساجد الأندلس، ودقة العمل، وغرابة الصنعة”، إذ لعبت دورا مهما لاحقا في العمارة المغربية والأندلسية من حيث نمط تخطيطها وتشكيلها، وفيما احتوته من زخارف ونقوش.

ولعبت دورا مهما في مجال الفلك، حيث استخدمت لرصد حركة القمر والنجوم، ومعرفة اتجاه القبلة، وأوقات الصلاة، ومراقبة الأهلّة، ومواعيد شروق الشمس وغروبها.

أثر الموحّدين الباقي

بعد سقوط إشبيلية بيد النصارى عام 1248، تحول جامع الموحدين الكبير إلى كنيسة، وحفظ بها رفات فرناندو الثالث ملك قشتالة، وشيد قبر كريستوفر كولومبوس مكان مربع المحراب، بينما ظل الجامع على حاله بدون أن تلحقه تغييرات مهمة في البناء.

ثم تلاحقت عليه أضرار جسيمة بفعل الزلازل التي ضربت البلاد، فهُدمت جهته القبلية، وأُنشئت في موقعها كاتدرائية، وظل البهو المعروف بـ”بهو البرتقال” على حاله حتى تهدمت مجنبته الغربية.

ولم يتبق من جامع الموحدين إلا عدة عقود تطل على صحنه من جهة الشمال والشرق، ومنها عقد الباب المعروف بـ”باب الغفران”، ومصراعا الباب المصفح بالبرونز وكتاباته الكوفية.

وما حفظ من الزخارف، تقتصر على تلك المحفورة من الجص بالعقد الداخلي للباب الرئيسي، وعلى العقد المطل على الصحن في امتداد هذا الباب.

بالإضافة إلى قبة المقرنصات في الباب الشرقي، وزخارف عقد المدخل المؤدي إلى الصحن، بقوامها ذي الأشرطة البارزة، والتي ترتسم فيها مستطيلات ومربعات قائمة على رؤوسها.

أما الشريط الأوسط من زخارف هذا العقد، فيتألف من سعف النخيل الملساء التي تخلو من السيقان، وحفرت على طبقتين.

والمئذنة أبقي على أصل هيكلها الرئيسي بطبقاته الخمس، وتحولت إلى برج للأجراس ملحق بالكنيسة، ثم وقع تغيير في ثلثها الأعلى، بعد أن فقدت تفافيحها الذهبية، فأقام الإسبان طابقا جديدا نصب في أعلاه تمثال يدور مع الرياح، أطلق عليه “جيرالدو” أو “دوارة الرياح”.

ثم أصبح اسم “الخيرالدة” يُطلَق منذ أوائل القرن الـ18 على البرج بأكمله، وهو الاسم الذي أطلقه عليها سيرفانتس، كاتب رواية “دون كيخوت”، وانتشر بعد ذلك في كتب التاريخ.

قالوا في وصف الجامع

وصف المؤرّخ الأندلسي عبد الملك بن صاحب الصلاة الجامع الكبير في إشبيلية في كتاب “المن بالإمامة”؛ بأنه “قارب جامع قرطبة في السعة، وليس في الأندلس جامع على قدره وسعته وعدد بلاطاته”.

وقال أحمد بن المقري التلمساني، في نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، “وبها (إشبيلية) منارة في جامعها بناها يعقوب المنصور ليس في بلاد الإسلام أعظم بناء منها”.

وقال الأثري الإسباني كونتريراس “إن (الخيرالدة) تبدو صرحا كاملا من الطراز العربي، وفيها تبدو مظاهر الفن الزخرفي الحقيقي، ومن الأسف أن هذا البرج الجميل قد تُوّج بجسم غريب عنه جدا، لا يسمح لنا أن نتصور وضعها القديم، وتفاحتها الذهبية، وألوانها الزرقاء الزاهية”.

وكتب المؤرخ الأميركي جوناثان ليونز في مؤلفه “بيت الحكمة” “عندما سقطت إشبيلية عام 1248، لم تكن القوات القشتالية الهمجية تدري أن مئذنة الجامع الكبير في المدينة كانت أيضا أول مرصد فلكي بأوروبا، لم يدر الغزاة ماذا يفعلون بهذا الهيكل الشاهق فحوّلوه لبرج حراسة”.

المسك. مسك الحدث من أوله, الأخبار لحظة بلحظة

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي ليصلكم الحدث في وقته.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *